طباعة اضافة للمفضلة
شبهات معاصرة
2413 زائر
06-01-2013
د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

نص الرسالة

شبهات معاصرة

(الجواب عن خمس عشرة شبهة)

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده ، لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله بين يدي الساعة ، بشيراً ونذيراً ، للناس جميعاً ، فبلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين . أما بعد :

فهذه إجابات على خمس عشرة مسألة وردت إلى الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي ، عبر ( المنتدى الإسلامي العالمي للحوار ) تطرح من قبل جمعيات تنصيرية في ملتقيات الحوار الإسلامي النصراني ، بدعوى التناقض والاختلاف بين النصوص القرآنية ، أو بين القرءان والسنة ، ثم يختلف المحاورون المسلمون في الإجابة عنها !!

وهذه المسائل تتعلق بأمور مستقرة في الشريعة، بل بعضها معلوم من الدين بالضرورة، لا يسع المحاور المسلم الالتفاف عليها تحت أي مبرر ، وفي ظل أي ظرف ، وخصمنا لا يرضى عنا إلا أن نتبع ملته ، كما قال ربنا : (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (البقرة:120) .

ومن الضروري في منهجية الحوار أن ينأى المحاور المسلم بدينه عن قفص الاتهام . وأن لا يستهلك جهده في الدفاع فقط ، وإن كان هذا مطلوباً بقَدَر معين ، بل عليه أن يأخذ بزمام المبادرة ، ويحوز سبق المبادأة ، كما أمر الله نبيه في محاورة أهل الكتاب ، فقال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم)(آل عمران:من الآية64) ثم يشرع في الدعوة إلى الحق الذي يعتقده ، والتحذير من الباطل الذي يعتقده خصمه: ( أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) فإن أبى فلا يضيع وقته في مجادلات لا طائل من ورائها ، أو الاشتغال بأمور جانبية تصرفه عن هدفه الكبير : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)(آل عمران: من الآية64) .

المسألة الأولى : الحرية الدينية :

ولد مصطلح ( الحرية الدينية ) بمفهومه المعاصر، بميلاد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، الصادر في 10 ديسمبر 1948م ، كرد فعل للممارسات المتعسفة التي كانت تتزعمها الكنيسة ضد مخالفيها عبر القرون ؛ من حجب ، وحرم ، وتحريق ، وحبس ، وطرد ، حتى بحق النصارى أنفسهم الذين ينتمون إلى كنائس أخرى ، فضلاً عن اليهود المضطهدين في المجتمعات الأوربية ، والمسلمين الذين تم قسرهم على اعتناق النصرانية في الأندلس ، أو قتلهم ، أو طردهم .

جاء في المادة (18) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ما نصه : ( لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين ، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه ، أو معتقده ، وحريته في إظهار دينه ، أو معتقده ، بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم ، بمفرده ، أو مع جماعة ، وأمام الملأ ، أو على حدة ) وبالتالي فليس هذا المبدأ مبدأً كنسياً حتى تتكىء عليه بعض الجمعيات التنصيرية لمحاولة النيل من العدالة الإسلامية ، بل يجب التذكير دوماً أنه تعبير عكسي عن ممارسات الكنيسة ضد الحريات العامة . ولم تعتنق الكنيسة الكاثوليكية هذا المبدأ ، رسمياً ، إلا في المجمع الفاتيكاني الثاني ، الذي انتهت أعماله عام 1965م ، أي بعد قرابة سبعة عشر عاماً من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ! تحت الضغوط الليبرالية التي اجتاحت أوربا في منتصف القرن المنصرم ، وكادت أن تقضي على الكنيسة برمتها .

ويقف الإسلام موقفاً وسطياً بين تطرف الكنيسة التاريخي حيال الحرية ، وانفلات بعض فقرات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . فالإسلام ، وكذلك جميع الرسالات السابقة ، جاءت لتحقيق هدف أصيل ؛ وهو توحيد الله بالعبادة ، التي من أجلها خلق الخلق ، وأرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، إذ لا يستقيم عقلاً ، ولا فطرةً أن يخلق الله الخلق ، وينعم عليهم ، ثم يعبدوا غيره !! ومن ثم فإن أكبر جريمة ترتكب ، وأبشع ظلم يقترف ، هو الشرك بالله : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13)

.

إن الأنظمة المدنية للدولة الحديثة تمنع جميع صور التعدي الحسي والمعنوي على الآخرين ، وإن القانون المطبق يعاقب على جرائم ؛ كالتزوير ، والكذب ، والسرقة ، والجاسوسية ، والقتل ..الخ ، فكيف يسوغ أن يهمل أعظم الحقوق ، وهو حق الله ، دون عقاب رادع ؟!

إن الإيمان بالله ، وتوحيده بالعبادة ، في نظر الإسلام ، قضية فطرية لا يحيد عنها إلا متنكر لفطرته ، خارج عن إنسانيته ، خائن لجماعته البشرية ، مرتكب لجريمة تستحق إيقاع العقوبة القصوى ، ما لم يرجع إلى صوابه . ومن ثم كان من مهمة أتباع الأنبياء دعوة الناس جميعاً إلى الإيمان بالله وتوحيده ، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وهذا يتحقق بإحدى صورتين :

إحداهما : أن يقبل المدعو الحق،وينخرط في الجماعة المؤمنة ، فله مالها،وعليه ما عليها. الثانية : أن يعلن الإذعان للجماعة المؤمنة ، المتمثلة بصورة دولة ذات سيادة وسلطان، مع احتفاظه بمعتقداته ، وشعائره السابقة ، وفق ما تقره تلك الدولة من تنظيمات ، وما تمنحه له من حقوق ، وما تفرض عليه من واجبات ، تماماً كما تفعل كثير من الدول المتقدمة الآن ،حين تسن أنظمة وقوانين تتعلق بالمهاجرين واللاجئين ، المقيمين على أراضيها ، تجعلهم في مرتبة أدنى من مواطنيها الأصليين . والفرق بين الصورتين أن الدولة العلمانية الحديثة تمارس هذا التمييز على أسس أرضية، والدولة الإسلامية تفعل ذلك بناءً على أسس موضوعية ، دون تمييز على أساس الأرض ، أواللون ، أوالعرق .

وعلى ضوء ما مضى يتبين المراد بقول الله تعالى : (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ)(البقرة: من الآية256) أي لا تكرهوا أحداً على اعتناق الإسلام ، فإن علامات صحته ورشده واضحة جلية ، لمن كان صادقاً مخلصاً في البحث عن الحقيقة ، وأما من دخله مكرهاً فإنه لا يستفيد من اعتناقه ، ولا يتخلص به من الغي. وحينئذ ، فعليه أن يذعن لنظام الإسلام ، إن كان له دولة وسلطان . وليس المقصود ما قد يفهمه بعض الناس من أن الآية تقرر الحرية المطلقة في التدين والتنقل بين الأديان، دون أن يترتب على ذلك أدنى تبعة ، فإن هذا لم يقل به أحد من علماء الإسلام .

وأما قوله تعالى : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)(الكهف: من الآية29) فليست للتخيير المجرد ، كما قد يفهمه بعض الناس ! وإنما جاءت في سياق التهديد والوعيد لمن شاء أن يكفر ، ولهذا ختمها بقوله : ( إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً)(الكهف: من الآية29).

وبناءً على ما تقدم ، فإن قتل المرتد عقوبة على جريمة كبيرة ، أشد في نظر الإسلام من جريمة ( الخيانة العظمى ) التي تعاقب عليها الدول بالقتل ، جراء إفشاء أسرار الدولة ، أو التعاون مع عدو خارجي ، أو السعي لقلب نظام الحكم ، أو ما دون ذلك مما تسنه بعض النظم الوضعية . فالردة كفر مضاعف ، والكافر المرتد أعظم جرماً من الكافر الأصلي ، لأنه خان خيانة عظمى ، ووقع في ظلم عظيم .

المسألة الثانية : أهل الذمة :

(أهل الذمة ) هم غير المسلمين ، من اليهود والنصارى وغيرهم ، القاطنون في البلاد الداخلة تحت الحكم الإسلامي ، الذين أبوا أن يعتنقوا الإسلام ، وفي نفس الوقت كفُّوا أيديهم عن قتال المسلمين ، ورضوا أن يبذلوا الجزية ، فاستحقوا بذلك ذمة المسلمين ، أي عهدهم وأمانتهم ، بالكف عنهم ، وحمايتهم ، وتمكينهم من مزاولة شعائرهم ، وطقوسهم الدينية ، والاجتماعية ، والتجارية ، بما لا يتصادم والنظام العام للدولة الإسلامية . وهذا التعبير يوحي ، بالدرجة الأولى ، بضرورة الوفاء بحقهم ، وحفظ عهدهم ، ولا يدل ، بلفظه ، على أي لون من ألوان التنابز بالألقاب ، كما يدل ، مثلاً ، لفظ : ( الموريسيكيون ) أي : ( العرب الأصاغر ) ، الذي أطلقه النصارى على مسلمي الأندلس .

إن التعبير الإسلامي المحبذ هو ( العدل ) وليس ( المساواة ) . فالعدل هو المساواة بين المتماثلات ، والتفريق بين المختلفات. أما التسوية بين المختلفات فضرب من الظلم. وتلك قضية بدهية ، مجمع على العمل بها ؛ كتقديم الأكفأ ، وتفضيل الأولى ، في جميع المجتمعات. ولم يقل أحد من علماء المسلمين أن المسلم وغير المسلم سواء، وإلا لانتقض بناء الدين كله بإلغاء الميزة العظمى ، وهي الإيمان . بل العكس هو الصحيح ؛ فالمؤمن من الناحية الاعتبارية في أحسن تقويم ، والكافر في أسفل سافلين . والمجتمعات العلمانية الحديثة تمارس هذا التمييز وفق معايير أقل أهمية من قضية الإيمان والكفر . وبالتالي فلم يقل الإسلام أبداً بالمساواة المطلقة بين المواطنين ، وإنما قرر المساواة في الحكم بين الناس وأداء الحقوق إلى أهلها ، مهما كان جنسه ، ودينه .

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أهل الكتاب : ( وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه ) فليس معناه أن تزحموهم إلى جانب الحائط ، فتؤذوهم ، كما قد يفهم بعض الناس ! بل المقصود أن تكون أفضلية العبور ، والتقدم ، للمسلم.

وغير خافٍ أن المجتمعات الغربية الحديثة ، ناهيك عن السالفة ، تعج بألوان من صور التمييز ، على المستويين : الرسمي، والشعبي ، حتى وإن بدت القوانين تمنع ذلك . وقد أسفرت الممارسات التعسفية في الولايات المتحدة ، وبعض الدول الأوربية ، ضد مسلمين أبرياء عن صورة بشعة من صور الظلم والتمييز ، والأخذ بالظنة ، بينما يعيش أجيال من النصارى بين ظهراني المسلمين ، لعدة قرون ، آمنين، مطمئنين ، لا يتعرضون لأدنى أذى ، شاهداً على العدالة الإسلامية ، الرسمية ، والشعبية ، تجاه أهل ذمتهم .

المسألة الثالثة : المرأة :

تتمتع المرأة في الإسلام بأحكام عادلة ؛ تحفظ الحقوق ، وتراعي الفروق . فهي في أصل العبودية لله تعالى ، كالرجل ؛ مأمورة بطاعة الله ، موعودة بثوابه ، منهية عن معصية الله ، متوعدة بعقابه . ولكن الفروق البدنية والنفسية بين الجنسين لابد أن تنعكس على بعض التشريعات الخاصة بكل منهما ، بما يوافق الطبيعة البشرية . وهذا هو العدل . واعتبار الذكر كالأنثى في كل شيء لا يقول به منصف ، فلكل وظيفته المميزة ، وطاقته الخاصة ، وبالتالي : لكل أحكامه اللائقة به . ولهذا تمارس الدول الحديثة نوعاً من التمييز في الوظائف والأعمال ، ثم في الأجور ، بين الجنسين .

وقد اعتبرت الشريعة الإسلامية شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ، لكون المرأة من النواحي النفسية ، والانفعالية ، والإدراكية ، دون الرجل . فشهادتها تتأثر تأثراً بيناً بعاطفتها ، وضبطها للمواقف أقل من ضبط الرجل ، ولهذا قال الله تعالى ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) فلم يلغ شهادة المرأة ، وإنما دعمها بشهادة أختها . وحينئذ ، فقول القائل : لماذا كانت شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل ؟ كقوله : لماذا تلد المرأة ، وتحيض ، ولا يلد الرجل , ولا يحيض ؟

وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم عن النساء ( ناقصات عقل ودين ) فقد تولى بنفسه ، صلى الله عليه وسلم ، بيانه ، لما سألته امرأة عن ذلك ، فقال : ( أما نقصان العقل ، فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل ، فهذا نقصان العقل . وتمكث الليالي ما تصلي ، وتفطر في رمضان ، فهذا نقصان الدين ) رواه مسلم . فتبين بذلك أن ليس المقصود ،كما يفهم بعض المتعجلين ، وصم المرأة بالجنون ، أو الفسق ، بل حكاية صفات خِلقية ، لا تلام عليها ، ولا تذم بها .

ومن هذا الباب أيضاً ، قوله صلى الله عليه وسلم ، لماَّ بلغه أن الفرس ملَّكوا عليهم ابنة كسرى ( لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة ) رواه البخاري ، لكون المرأة ، بصفاتها النوعية ، والفطرية ، لا تملك الكفاءة الكافية لتولي المسؤوليات العامة . والتاريخ شاهد على ذلك ، بل والواقع أيضاً ، وإن كانت ممارسات الحكم الآن لا تعطي المرأة ، ولو كانت رئيسة وزراء مثلاً ، صلاحيات مطلقة ، بل مرهونة بموافقة مجالس عليا ، وصناع قرار .

المسألة الرابعة : الزواج :

أباح الله للمسلمين نكاح المحصنات، وهن العفيفات، من المؤمنات ، والكتابيات ، وحرم عليهم نكاح المشركات الوثنيات . وهذا ليس من باب التمييز العنصري ، ولكن من باب التمييز الإيماني الديني ، بدليل أن المشركة ، من أي عنصر أو عِرق أو وطن ، تحل للمسلم بمجرد إسلامها . ولا شك أن الإسلام يميز بين الناس على أساس معتقداتهم ، ولا شك أن الرابطة الإيمانية مقدمة على الرابطة الإنسانية ، وتلك قضية محسومة في القرآن . قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (صّ:28) وقال : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) (القلم:35) ، والتنازل عنها يعني القضاء على الدين نفسه ، بصورته الشمولية ، والصيرورة إلى أن يصبح الدين ( ملحقاً ) من ملاحق الحياة ، لا إنه (صبغة الله) للحياة ، ومن أحسن من الله صبغة . وهذا ما آلت إليه النصرانية بعد تحريفها ، وما تريد الجمعيات والهيئات النصرانية أن تستزل المسلمين إليه .

وحرمة زواج المسلمة بغير المسلم ، من كتابي ، أو مشرك ، مبنية على أن الزوج له القوامة على المرأة ، والتوجيه للحياة الأسرية ، وأن أولاده منها ينسبون إليه ، وينشؤون على دينه ، ويتبعونه في الأحكام ، قبل سن التكليف ، وهذا إجحاف بالزوجة ، والذرية . بخلاف زواج المسلم من كتابية ، فالإسلام يضمن لها حرية البقاء على دينها ، لكن أولاده منها يحكم لهم بالإسلام . كما أن الكتابية حين تقترن بمسلم ، تقترن بزوج يؤمن بنبيها ، وسائر أنبياء الله ، ولا يفرق بين أحد منهم . في حين أن الكتابي من يهودي أو نصراني لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأنه خاتم الأنبياء فكيف يسوغ أن يجمعه عقد واحد ، ويظله سقف واحد ، مع مسلمة ؟!

المسألة الخامسة : تعدد الزوجات :

قال تعالى : ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)(النساء: من الآية3) وهو سبحانه أعلم بمن خلق ، وبما يصلح به حال الناس في معاشهم ، ومعادهم . وليس في ذلك انتقاص لكرامة المرأة ، إذ الباعث على التعدد إما أمر يتعلق بالزوجة الأولى ؛ كعقم ، أو مرض مزمن ، يمنع من كمال الاستمتاع بالحياة الزوجية ، أو لأمر يتعلق بالزوج ، كرغبة في تكثير النسل ، أو فرط شهوة ، وعلى كلا التقديرين فليس أمام الزوج إلا أن يصبر على مضض ، أو يلجأ إلى الطلاق ، أو يسلك مسالك رديئة باتخاذ الخليلات، والوقوع في الفواحش، أو يأخذ برخصة الله له في التعدد ، المشروط بالعدل الممكن من حيث القسم ، والنفقة ، وحسن العشرة .

إن جرح كرامة المرأة حقاً ، وعدم الوفاء بحقها ، إنما يكون بما يسمى في الاصطلاح الحديث ( الخيانة الزوجية ) السائدة في معظم دول العالم ، بسبب وصد هذا الباب الشرعي ، والتضييق على الأزواج .

إن محاولة الاعتراض على هذه الرخصة الشرعية للرجال ، بعدم منحها للنساء تبدو متهافتةً ، مستهجنة ، لدى جميع العقلاء . فهل يريد المعترض أن يكون رحم المرأة مجمعاً لمياه الرجال ، فتختلط الأنساب ، وتصبح المرأة كالبغي ؟!! لا أحسب عاقلاً يقول بذلك ، فضلاً عن أن يتظاهر بالدفاع عن المرأة وكرامتها .

المسألة السادسة : ميراث المرأة :

فرض الله المواريث في كتابه ، وقسمها بين مستحقيها بنفسه ، بحسب ما اقتضته حكمته ، ورحمته ، وسعة علمه . ولم يدع ذلك لاجتهاد مجتهد ، أو فقه فقيه ، فقال بعد أن ذكر جملة من أحكام المواريث : ( آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً )(النساء: من الآية11) .

وقد جعل الله للمرأة نصف ما للرجل من جنسها ، ولم يحرمها من الميراث ، كما يصنع أهل الجاهلية القديمة والحديثة ، ولم يسوها بالرجل ،كما ينادي بذلك من قصر علمه ونظره . ذلك لأن للشريعة الإسلامية منظومة مترابطة من التشريعات تقضي بعدم التسوية في الميراث ، الذي هو نوع استحقاق ، لعدم التساوي في الالتزامات ، التي هي من قبيل الواجبات . فالرجال في الإسلام ، سواءً كانوا آباءً ، أو أبناءً ، أو أزواجاً ، أو إخواناً وارثين ، ملزمون بالنفقة على بناتهم ، أو أمهاتهم ، أو زوجاتهم ، أو أخواتهم ، بشرطين اثنين : غنى المنفِق ، وفقر المنفَق عليه ، في حالة عمودي النسب ؛ وهم الآباء ، والأولاد ، وبزيادة شرط ثالث إن كان المنفِق من الحواشي ، وهو كونه وارثاً للمنفَق عليه . أما الزوج فتجب عليه نفقة زوجته مطلقاً ، سواءً كانت فقيرةً أو موسرة . وبهذا تتبين حكمة الشارع في مضاعفة نصيب الذكر من الميراث ، لما يتعلق به من الالتزامات ، ولا شك أن هذا من مسوغات فضله ، وأسباب قوامته ، كما قال تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِم)(النساء: من الآية34) ولكنه لا يدل على ظلم المرأة ، وانتقاص كرامتها، كما يزعم بعض الجاهلين . لأن الظلم هو التفريق بين المتماثلات ، والتسوية بين المختلفات، والعدل هو التسوية بين المتماثلات ، والتفريق بين المختلفات : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) .

المسألة السابعة : دار الإسلام ، ودار الحرب :

الأرض التي تسود فيها أحكام الإسلام هي دار الإسلام، وخلافها دار الكفر. وأمة الإسلام أمة ذات رسالة سماوية ، تتحمل مسؤولية ربانية ، تجاه الناس جميعاً ، على اختلاف أعراقهم ، وأوطانهم ، ولغاتهم ، لهدايتهم إلى دين الله الحق ، ودعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ، وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، كما وصفها الله في كتابه بقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(آل عمران: من الآية110) فمن حال بين الناس وبين سماع الحق وقبوله ، وأقام الحواجز المادية أمام الأمة ورسالتها ، فقد بادأها العداء ، وأعلن عليها الحرب ، فمن البديهي أن تكون داره دار حرب . ولم تزل الدول قديماً ، وحديثاً تعلن الحرب على دول أخرى لأقل من هذا ؛ كما شهدنا في الأحداث القريبة إعلان بعض الدول المتحالفة الحرب على العراق بدعوى لم تثبت قبل ، ولا أثناء ، ولا بعد تلك الحرب !! ثم يندد بعض المجحفين بحركة الفتح الإسلامي ، التي كانت رحمة على البشرية جمعاء .

إن مقاصد الفتوحات الإسلامية أن يكون الدين لله ، وأن يرفع الظلم عن المستضعفين ، وليس لتحقيق مطامع مادية ، أو أهداف استراتيجية ، أو القيام بعمليات تهجير عرقي، أو ممارسة ضغوط ابتزازية،كما فعلته وتفعله كثير من الدول الغربية الآن.

المسألة الثامنة :حرمة دخول المشركين مكة المكرمة :

قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَاٌ) (التوبة:28) .لا شك أن أشرف ، وأطهر بقعة على وجه الأرض هي بيت الله ؛ الكعبة ، وحرمه الشريف . ولا شك أيضاً أن أحط ،وأنجس فعل يصدر من الإنسان هو الشرك بالله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13) فلا تناسب بين المشرك النجس ، والبيت المطهر . ولا شك أيضاً أن الإسلام يعتبر الإنسان الذي تنكر لما خلق له من عبادة الله قد وضع نفسه أسفل سافلين ، وأنه حين يستقيم على عبادة ربه يعود إلى فطرته الأولى التي خلقه الله عليها في أحسن تقويم ، ويكون جديراً حينئذ أن يدخل بيت الله ، بعد أن دخل في دين الله . أما أن يكون عدواً لله ثم يطلب دخول بيته ، فهو أمر لا يقبله الناس فيما بينهم ، فكيف يكون سائغاً في حق الله ؟!

وقول القائل : ( أليس الله رب الجميع ، فلماذا يحتكر المسلمون بيت الله لأنفسهم دون غيرهم ؟ ) ضرب من المغالطة اللفظية ، والتجديف الكلامي . وجوابه : أن ربوبية الله نوعان : ربوبية عامة ، لجميع الخلق ؛ فهو خالقهم ، ورازقهم ، ومدبر أمورهم ، وربوبية خاصة : وهي لأوليائه المتبعين لرسله ، الذين يوحدونه بالعبادة ، ولا يشركون معه أحداً سواه . ثم هو سبحانه قد نهى عباده المؤمنين عن تمكين المشركين من قربان بيته المطهر ، بسبب تلطخهم تلطخاً معنوياً بنجاسة الشرك ، فامتثل عباده أمره .

إن مصطلح ( كرامة الإنسان ) يختلف بين الاعتقاد الإسلامي ، والمفهوم الكنسي. فالعقيدة الإسلامية تربط تلك الكرامة بأداء الإنسان للوظيفة التي فطر عليها، وخلق من أجلها ، قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56) فإذا انحرف عن تلك الفطرة الأصلية ، وارتد عن الوظيفة الأساسية ، فقد تلك الكرامة . قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين 4-6) . بينما تقرر الكنيسة دوماً أن الإنسان كريم مطلقاً ، مهما بدر منه من خطيئة !! وهذا خلاف النقل والعقل.

المسألة التاسعة : منع المملكة العربية السعودية بناء معابد الكفار على أرضها :

المملكة العربية السعودية تنطلق من منعها إقامة المعابد غير الإسلامية على أراضيها من منطلقات شرعية ملزمة للدولة التي تتشرف بحضانة الحرمين الشريفين ، والسيادة على جزيرة العرب . وهذا محل اتفاق بين المسلمين، قديماً،وحديثاً، وليس إجراءً محلياً طارئاً، كما يتوهمه بعض من لا يعرف أحكام الشريعة الإسلامية . فإن من الخصائص الشرعية للجزيرة العربية أن تكون معقلاً للإسلام . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يترك بجزيرة العرب دينان ) رواه أحمد . والمقصود أن يكون الدين الظاهر هو الإسلام فقط ، ولا يسمح لغيره بالاستعلان من خلال بناء المعابد ونحوها .

ولا وجه لاستغراب هذا التشريع من قبل غير المسلمين . فلم تزل كل ملة على وجه الأرض تقدس بعض البقاع ، وتخلع عليها صفة الخصوصية الدينية . فالفاتيكان لا يأذن بإقامة كنيسة بروتستانتية ، أو أرثذوكسية ، فوق أراضيه ، فضلاً أن يخطر ببال أحد أن يأذن بإقامة مسجد ، أو معبد لديانة غير النصرانية . كما أن دولة الفاتيكان عقدت معاهدة ( لاتران ) مع الحكومة الإيطالية عام 1929م ، تنال بموجبها خصوصية دينية ، دون أن يقول قائل : أليس هذا من تقديس الجغرافية ، والاعتداء على حرية الأديان الأخرى !! لقد رفض الأساقفة اليونان ، والأقباط دخول البابا (يوحنا بولس الثاني) أسقف الكنيسة الكاثوليكية كنائسهم ، واضطر إلى إقامة قدَّاسه في فناء دير سيناء ، وهم أتباع ملة واحدة !!

فكما تواضع العالم على اعتبار الفاتيكان معقلاً للكاثوليكية، وحوض نهر (الغانج ) مغطساً للهندوس، وجبل ( هيي Mt. Hiei) قرب العاصمة اليابانية القديمة ( كيوتو ) موقعاً مقدساً للبوذية ، فليتواضع العالم أن الجزيرة العربية معقل للإسلام .

بقي أن نشير إلى أن التسهيلات التي تمنحها بعض الدول الغربية للمسلمين من مواطنيها، والمقيمين فيها، لم تكفلها الكنيسة الكاثوليكية ، ولا مجلس الكنائس العالمي . بل منحتها إياهم الأنظمة الليبرالية التي تعتنقها معظم الدول الغربية ، بعد تخلصها من نير الكنيسة . وبالمقابل لا زال النصارى في البلاد الإسلامية يحتفظون بكنائسهم منذ عشرات القرون ، وفاءً من المسلمين بعهد الذمة .

المسألة العاشرة : الحدود :

الإسلام نظام شامل ، كامل ، متوازن ، ذو أساس عقدي ، وتشريع اجتماعي ، وتوجيه تربوي ، يرفد بعضه بعضاً ، وينتج بمجموعه مجتمعاً صالحاً ، تتسع فيه دواعي الخير والبناء ، وتضيق فيه مجاري الشر والهوى . وهو بذلك يفارق الكهنوت الكنسي الذي يقصر مفهوم الدين على طقوس معينة، في وقت معين، في موضع معين ، ويفصل بين ما هو ديني ، وزمني ، ويدع ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله !

إن تحقيق العبودية لله في الإسلام يكون بالإيمان بالكتاب كله ، وعدم تجزئة الدين بالإيمان ببعض الكتاب ، والكفر ببعض ، قال تعالى : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة: من الآية85) . وبالتالي فإن قضية الحدود والتعزيرات ليست محلاً للبحث والنقاش ، ابتداءً ؛ إذ هي جزءُ من الإيمان بحكمة الخالق ، وعلمه بمن خلق ، قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) .

إن حقوق الإنسان لا تصان على حساب أخيه الإنسان ، وإنما تصان بإحدى طريقتين : إما بوازع الإيمان ، وإما برادع السلطان . وقد أثبتت التجارب البشرية والقوانين الوضعية ، المنفلتة عن هدى الله عجزاً ، وقصورا عن حفظ كرامة الإنسان ، وحمايته من الفساد والإفساد ، كم تنطق بذلك إحصاءات معدلات الجريمة في الدول المتقدمة ، فضلاً عن المتخلفة .

إن الإسلام لا يبيح للإنسان أن يظلم نفسه ، فضلاً عن غيره ، بأي نوع من أنواع التصرفات الخاطئة ، سواءً ما تعلق بالدين، كالردة ، أو النفس، كالانتحار ، أو المال ، كالتبذير ، أو العقل ، كشرب المسكر ، أو العرض ، كالزنا . وهي الضرورات الخمس التي تدور عليها مقاصد الشريعة . ولا صحة إطلاقاً لتعليق ذلك بالاختيار الشخصي، أو التراضي بين طرفين، فضلاً عن نسبته إلى مذهب من المذاهب الإسلامية.

المسألة الحادية عشرة : المناداة بتطبيق الشريعة الإسلامية :

من البدهي أن يسعى المسلم إلى تمثل دينه ، وتطبيق إيمانه ، في نفسه ، وأسرته ، ومجتمعه ، ثم في بلده . ومن العجب أن تُحمل المجتمعات الإسلامية على تنحية شريعتها مراعاة لأقلية غير مسلمة ، على حساب الأكثرية المسلمة !! إن بناء الديموقراطيات الحديثة يقوم على إنفاذ رغبة الأكثرية ، حتى ولو ظل جزءُ من المجتمع رافضاً . فكيف يستنكر على المسلمين في بلادهم أن يمتثلوا أمر ربهم ، ويحكموا شريعته ، لأجل نفر من دونهم ، قد حفظت الشريعة حقوقهم الخاصة ، ورتبت لهم ما يليق بهم ، ويحمي مصالحهم المدنية ، ما داموا ملتزمين بالنظام الإسلامي العام ؟! إن لكل دولة اتخاذ الترتيبات الملائمة لها ، دون ظلم أو حيف . ونحن نشهد في السنوات الراهنة لدى الدول الغربية من الممارسات المتعسفة في حق المهاجرين ، والأقليات العرقية ، والمجموعات الدينية ، ما ينافي ما يدعونه من مراعاة حقوق الإنسان . ولا أدل على ذلك مما لحق المسلمين ، أفراداً ، وهيئات، في الولايات المتحدة ، وأوربا ، من اضطهاد ومعاناة ، وأخذٍ بجريرة غيرهم .

المسألة الثانية عشرة : معنى قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)(المائدة: من الآية82) .

تشكل هذه الآية على بعض الناس ، حين تجبههم النصوص الأخرى الدالة على ذم النصارى ، وتكفيرهم ، وتضليلهم ، وتحريم موالاتهم ، وهي كثيرة في القرءان والسنة . وسر هذا الإشكال أنهم يظنون أنها تؤسس لعلاقة مودة دائمة بين المسلمين ، والنصارى المصرين على نصرانيتهم ، الرافضين للدخول في الإسلام . وحقيقة الأمر أن الآية المذكورة تشير إلى أن أقرب أتباع الملل قبولاً للحق ، واعتناقاً للإسلام، هم النصارى ، على وجه الجملة ، لما يتمتعون به من صفات نوعية تؤهلهم لقبول الحق ممن جاء به ، دون كبر ، أو تعصب . وهذا ما تفيده بشكل جلي تتمة الآية الكريمة والآيتان بعدها ، حيث يقول الله تعالى : (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (المائدة:82-84) . فجمعوا بين العلم ( قسيسين ) ، والعبادة ( رهباناً ) ، والتواضع ( لا يستكبرون ) ، ورقة القلب ( ترى أعينهم تفيض من الدمع مما سمعوا من الحق ) . بخلاف غيرهم من اليهود والمشركين .

فالآية صريحة في الثناء على قوم آمنوا بالله ، وبالقرءان ، وبالرسول صلى الله عليه وسلم ، وانخرطوا مع القوم الصالحين ، من الصحابة والتابعين . وهي من جنس قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (القصص:51-53) . وأما من أصر على مقالة التثليث ، ودعوى ألوهية المسيح ، وبنوته ، فقد أكفره الله في ثلاثة مواضع من آخر ما نزل من القرءان ، فقال : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) ( المائدة : 17،72 ) وقال : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:73) . وبهذا يندفع الإشكال .

المسألة الثالثة عشرة :آيات الجهاد :

الإسلام دين الله للناس جميعاً ، ومحمد صلى الله عليه وسلم رسوله للناس جميعاً ، والقرءان كتابه للناس جميعاً ، لا تختص به أمة دون أمة ، ولا أرض دون أرض ، ولا حقبة من التاريخ دون أخرى . والدعوة إليه مهمة الأمة المسلمة ، مهما كان عرقها ، أو لغتها ، أو موقعها . والأصل في دعوة الناس البلاغ المبين ؛ بالحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن . فإن حال دون هذا الهدف حائل مادي ، لزم السعي لإزالته ، وتمكين الناس من سماع الحق والتزامه ، بحيث يكون الدين كله لله وهذا السعي هو الجهاد . تارةً يكون بالحجة والبيان ، وتارةً يكون بالسيف والسنان ؛ بحسب اختلاف أحوال الأمة ، قوةً ، وضعفاً ، وبحسب اختلاف الطرف المقابل قبولاً ورفضاً . وهذا ما يفسر تنوع آيات الجهاد في القرءان ، بحيث تفهم الآية في سياق مرحلة معينة . ويأتي دور الفقهاء ، والخبراء ، في تنزيل التشريع المناسب على المرحلة المناسبة ، وهو ما يعرف بالسياسة الشرعية .وتبقى مهمة الأمة الإسلامية ثابتةً لا تتغير: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه)(آل عمران: من الآية110) .

.

المسألة الرابعة عشرة : إن الدين عند الله الإسلام :

يعتقد المسلمون أن دين الله واحد ، وأن ماجاء به أنبياء الله من لدن آدم إلى محمد، صلوات الله وسلامه عليهم ، واحد ، وهو الإسلام ، بمعناه العام ، الذي هو توحيد الله بالعباده ، والخلوص له من الشرك . قال تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)(الشورى: من الآية13) فكانت دعوتهم واحدة : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الانبياء:25) . وإنما وقع التنوع في الشرائع ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ، ودينهم واحد ) متفق عليه . فما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من العقائد الصحيحة ، والشرائع العادلة ، والأخلاق القويمة ، هو الإسلام بالمعنى الخاص ، الذي نسخ الله به جميع الأديان ، فلا يقبل ديناً سواه ، كما قال : (ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85) ، وكما قال صلى الله عليه وسلم :(والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني،ثم يموت،ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) رواه مسلم.

ويعتقد المسلمون أيضاً أن ما سوى الإسلام من الأديان إما فاسد من أصله ؛ كالديانات الوثنية ، أو صحيح الأصل ، لكن طرأ عليه التحريف والتبديل ؛ كاليهودية والنصرانية ، وما صح منهما فهو منسوخ بالإسلام . وقضية تحريف العهدين القديم ، والحديث، واختلاف نسخهما ، باتت محل تسليم من الباحثين اللاهوتيين ، وليست مجرد دعوى يطلقها المسلمون ، بناءً على الأدلة القطعية في الكتاب والسنة . ومن ثم فإن العقيدة الإسلامية تمثل حقيقة دينية كاملة ، لا يتطرق إليها الخطأ في حد ذاتها، لكونها مصونة محفوظة . وليس معنى ذلك أن ليس مع أهل الكتاب صواب مطلقاً. بل ثم صواب مشوب بخطأ وتحريف ، يكوِّن منظومة باطلة ، لا يصح الاعتماد عليها. وليس في نصوص القرءان ما ينافي هذه المسلمة ؛ فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (الحج:17) ليس فيها أدنى تزكية للملل الأخرى ، أو إيحاء بأنهم على حق ، كما توهمه بعضهم ، بل غاية ما فيها الإخبار بأن الله تعالى سيجمع هذه الطوائف يوم القيامة ، ويفصل بينهم بحكمه العدل المبني على شهادته لأعمالهم . وكل هذه الطوائف الضالة بإزاء الذين آمنوا ، ولذا قال بعدها : (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ )(الحج: من الآية19) فذكر الذين كفروا ومصيرهم ، ثم ذكر الذين آمنوا ومصيرهم .

.

المسألة الخامسة عشرة : الجزية :

فرض الجزية على غير المسلمين من أهل الذمة ، مقصوده الأعظم كون الدين كله لله ، وكون كلمة الله هي العليا ، باستسلام غير المسلمين ، وإذعانهم لأحكام الملة .وقد يقترن بهذا الهدف أهداف أخرى من مقتضى عقد الذمة،مثل:الكف عنهم والحماية لهم. وهذا العقد ينقل غير المسلم من صف المحاربين ، الذين تستباح دماؤهم وأموالهم ، في كل شرعة ، إلى بر الأمان ، حيث تتكفل الأمة المسلمة ، بأجمعها ، لا الحاكم فقط ، بحفظ حقوقهم المدنية ، والذود عنهم ، وافتكاك أسيرهم ، وإطعام جائعهم ، وكسوة عاريهم ، في حال العجز . فهو عقد كسائر العقود ، يتضمن حقوقا ، ويترتب عليه واجبات . وهو بهذه النتيجة لون من ألوان التسامح ، مقارنة بما يفعله المنتصرون في الأمم الأخرى بالمنهزمين ، من إبادة ، وتهجير ، واسترقاق .

إن عقد الذمة لا يحمل المسلمين على نبذ مواطنيهم ، وقطع الإحسان إليهم ،كلا ! بل جاءت النصوص بوجوب العدل في معاملتهم ، والترغيب في الإحسان إليهم . ومن صور ذلك : حسن جوارهم ، وعيادة مريضهم ، وتشميت عاطسهم ، والقيام لجنائزهم ، وجواز الصدقة والوقف على فقرائهم، بل والوصية لهم ، ومنحهم حرية التنقل ، والتكسب ، والاتجار ، داخل دار الإسلام .وكل ذلك معروف في الشريعة . ومن ثمَّ ، فإن عقد الذمة لا يناقض مدلول قوله تعالى : (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8). والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وصحبه وسلم.

كتبه / د. أحمد بن عبد الرحمن بن عثمان القاضي

عنيزة . في 16/7/1424

   طباعة 
0 صوت
« إضافة تعليق »
إضافة تعليق
اسمك
ايميلك

/500
تعليقك
  أدخل الكود
روابط ذات صلة
الإصدار السابق
الإصدارات المتشابهة الإصدار التالي
جديد الإصدارات
الدرر اللوامع في الخطب الجوامع - إصدارات مركز المشير
مختصر قواعد عربية - إصدارات مركز المشير
منبر السلام: خطب جمعة منتقاة - إصدارات مركز المشير